{ يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي } -الفجر27- { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكرالله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}- الرعد 28-،{ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعّد في السماء} – الآنعام 125-،{ أفمن شرح الله صدره للإسلام فهوعلى نورمن ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله،أولئك في ضلال مبين} – الزمر22- {ألم نشرح لك صدرك}- الإنشراح 1-، إن هذه الآيات قد تصوّر لنا مظهرا من مظاهر النفس الإنسانية وهي على صفة المطمئنة أي الآمنة والهادئة والخالية من مظاهر القلق والتوتر والعصاب، كما أن لها سلوكا معيّنا بالرضاعن الحق ورضا الحق تعالى عنها، فكيف إذن قد تيسّرلها الحصول علىتلك الحالة واكتسابها بعدما كانت أمّارة بالسوء؟ ، إن القرآن الكريم قد يفسّر بعضه بعضا ويصرّح بأن الاطمئنان الذي أصبح صفة للنفس قد تحصلت عليه بوسيلة يحصرها في قوله تعالى : {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}، فما هي علاقة الذكر بالقلوب وما هي خصوصية هذا الاطمئنان الذي قد يحققه ويتميز به عما قد يدّعيه البعض من تحصيله بوسائل مادية صرفة أو نفسية ذاتية عادية؟، إن الذكركلفظ له معان اصطلاحية لغوية وأخرى شرعية وعرفية ، ولكن المقصود هنا هوالمفهوم الشرعي الذي قد يجمع بين المعنى العام للذكر وهو القرآن نفسه كما في قوله تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} -الزخرف 44- ،{ص والقرآن ذي الذكر} – ص 1- وبين الذكر بالمعنى الخاص المرتكزعلى جمل معينة وألفاظ مستخرجة من القرآن نفسه أو الأحاديث النبوية والتي قد تتضمن تسبيحا وتقديسا لله تعالى وأدعية وتضرعات على سبيل التكراروالملازمة ، كما نجد في قول الله تعالى : {سبح اسم ربك الأعلى} -الآعلى 1- ، وقوله في حق سيدنا يونس:{ فلولا أنه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}-الصافات 143-144-، والذي كان تسبيحه على صيغة:{ أن لّا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} -الآنبياء 87-، وكذلك قوله تعالى في حق نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: { إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} -التوبة 172-، وإذا كان الذكر قد يضم هذا المعنى العام والخاص فإنه سيكون مصدرالاطمئنان لدى الإنسان إن هو التزمه واستشرق بأنواره ومضامينه، فبدون هذا الذكر فلن يكون للقلب اطمئنان،والسبب في ذلك -والله أعلم- أن النفس الإنسانية حينما تستيقظ من سباتها وتخرج من براثن وأوحال المادة المنحصرة في الجوانب الشهوية والأطماع الدنيوية الفانية والهالكة في حينها عند الإستهلاك والتوظيف، فقد تحاول التخلّص من تلك الدوافع لكي تعود إلى وطنها الأصلي ومكانها الراقي في عالم التجريد والتفريد ، وفي أثناء تلك المرحلة الانتقالية قد تتجاذبها غرائزها كمحاولة منها لإحباط تطلعاتها لتلك الآفاق الواسعة ، فلا تجد حينئذ طريقا للتخلّص من هذه العوائق إلّا بالرجوع إلى مراجعة ذاتها وإلغاء انطوائيتها على نفسها وذلك باللجوء إلى واهب وجودها الذي سبحانه قد خلقها في أحسن تقويم، وعند هذا التوجه بالكلّية فقد تتوحد قواها فتصير ذات تحكم في غرائزها وترشيد لها وذلك بسبب إخمادها إياها لتوهجاتها عن طريق عدم الإثارة وتعمد الكف الباطني الذي قد يجعل تلك الغرائز شبه نائمة ، نظرا لغياب المنبّهات المناسبة لطبيعتها مرحليا وحضور الذات الواعية بديلا عنها بسبب انشغالها بخالقها وواهب وجودها ونعمها الله سبحانه وتعالى، وعند هذه الحالة فسيكون الأطمئنان حتما مصاحبا للنفس الإنسانية لأنها قد تكون وافقت الفطرة التي فطرها الله عليها، ألا وهي فطرة التوحيد الذي قد أشهدها الله عليه إذ يقول جلّ من قائل :{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟قالوا بلى} – 75- الأعراف ، فالاطمئنان قد يحصل بسبب الاكتفاء والثقة التي تكتسبها النفس عن طريق إشباعها بالغذاء الخاص بها،وهو عبادة الله وذكره دائما بكل وقت،لأن الروح من أمره الخاص ،وتتجلى هذه الخصوصية في تحقيق العبودية الإرادية والواعية والتي من أجلها كرّم الله تعالى الإنسان وفضله على كثير من خلقه، ولهذا فالذي يؤمن بالله وبذكره دائما يحصل له الإطمئنان في قلبه، لأنه قد توصّل إلى كسب الثقة في الله تعالى بالتوكّل والاعتماد عليه سبحانه وتعالى في تحقيق سعادته وأشبع روحه بغذائها التى لا تستغنى عنه وإلاّ ضلت وماتت وهى على قيد الحياه ، ولكي يكون هذا الاطمئنان كامل الثبات والرسوخ في النفس فلا بد من تكرار القاعدة المستند عليها وهي ذكر الله لفظا ومعنى، وهذه العملية تهدف إلى المحافظة على استحضار هذا الإيمان وتعويد النفس الاستقرارعلى منهجه وما يتضمنه من معرفة غيبية ،فقد يحدث أن يتوّهم الإنسان اطمئنانا من دون أن يكون ذاكرا لله تعالى أو غير مؤمن به في الأصل ، إلا أنّ هذا الاطمئنان سطحي وظرفي ، سرعان ما يتبخّر حينما تنجلي الحقائق ويبزغ نهاراليقين ، وذلك النوع من الاطمئنان قد أورده الله تعالى في قوله :{ إنّ الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} -يونس 112-، وهذا النوع من الاطمئنان ناتج عن ضيق أفق الطموحات النفسية ، فالإسلام حينما يقرر الاطمئنان النفسي فإنه قد لا يحصره في العمل الروحي فقط ، بل سيجعل له ارتباطا نسبيا بالحياة المادية ، وذلك لكي لا يتم إهمال هذا على حساب ذاك أو العكس، فالجوع والخوف والمرض والظلم والحروب… كلها عوامل مقلقة وسالبة لمظاهر الاطمئنان ، لكنها قد تتضاءل قوتها وتأثيرها السلبي في حالة الإستمرارفي ذكرالله تعالى وملازمته والإيمان به ، أما إذا غاب المذكِّر والسند العقدي الروحي الموقظ للوعي والثبات وتوالت بعده الفتن والبلايا فإنه سيكون عندئذ أشد العذاب وأقصى درجة القلق لدى الإنسان ، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى:{ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} – النحل22 – ، وهذا النوع من الكفرعند غيرالمؤمنين قد سماه الله تعالى غفلة لأنه نفسي وتصوّري قد يبقى في حدود الخيال والوهم ، أما الحقيقة الجوهرية فهي ثابتة قد لا تتغيّر ولا تتبدل ، يقول الله تعالى مخاطبا الإنسان الغافل كتنبيه وتوبيخ له :{ لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} – ق28-، وقال الله تعالى : { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} – 21/ 10- {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِحَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } 22 – 10/23سورة يونس – ، فهمنا من هذه الآيات بأن الاطمئنان القائم على مجرد الاكتفاء والثقة الوهمية بمظاهر المادة أو الشعور النفسي المصاحب له ليس بذي وجود حقيقي أو ثابت إلا إذا كان يستند إلى حقيقة ثابتة وجوهرية قارّة { يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة }-27 – سورة ابراهيم ،ولهذا فالاطمئنان الحقيقيّ هو الذي قد لا تتحكم فيه الظروف ولا تغيره الهزات لأنه ليس مجردالسلامة من الآلام والأسقام فقط , وإنما هو نصب هذه الروح في فلكها الذي خصّص لها من باب التوحيد والإيمان المباشر، الذي بدونه ستبقى مضطربة بين اطمئنان وهمي مادّيّ محدود كاستدراج له , وبين الاستغاثة بمصدر الاطمئنانالحقيقيّ عند الاضطرار تحت ستار متلبّس بالمخادعات التي قدتكون وبالاعليها،لأن الله تعالى عليم بكل أحوالها ، وهو سبحانه الذي {يعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور} -19- سورة غافر، وقد يجازيها على حسب نكرانها للجميل والفضل، فيكون أنسب جزاء عقابي لها حينئذ هو حرمانها من الاطمئنان الحقيقي وتعريضها للوم نفسها لوما مؤلما على مستوى نفسي بل حسّي أيضا: { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا-يا ويلتى ليتنى لم أتخذ فلانا خليلا } 27-28- سورة الفرقان ، ونمضي مع القرآن في هذا السياق بآياته المعجزة والتي كل منها قد تمثل بحرا فيّاضا من الحقائق النفسية التي تصوّرلنا شخصية الإنسان الحقيقية في حياته الشعورية واللّاشعورية حيث يقرربأن النفس الإنسانية وإن هي وقع لها كف وغفلة عن الإيمان بالله تعالى فإن الذكر قد يبقى دائما هو الموقظ لها مما تتخبط فيه لأن لها به ارتباطا وثيقا وجذريا، فنراه يورد حقيقة نفسية برهانية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، يصوّرلنا فيها واقعها المستند على المشاهدة التجريبية ، يقول الله تعالى : { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون} -45- الزمر{ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا، وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا} – 46 -سورةالنحل ، فهاتان الآيتان قد تصوّران لنا حالة ذلك الإنسان القلق المضطرب الذي يعاني من خوف أو نقص أو انحراف مّا ، وقد كان من الواجب أن يحدث له عكس ما وصفه به القرآن الكريم من الاشمئزاز أو النفور، لأن القاعدة الرئيسية كما رأينا هي أن ذكر الله تعالى يسبّب الاطمئنان واليقين ، فما بال هؤلاء الموصوفين هنا بهذه الحالة الشاذة قد يحدث لهم العكس مما هو متوقع؟ ، إن جذورهذا الانفعال قد تبدوعميقة جدا ولها خلفيات متولّدة عن الصراع الداخلي الذي قد يعانيه الإنسان من جراء مخالفته لغريزته الحقيقية وهى غريزة التوحيد والإيمان بالله تعالى وحده لا شريك له كما نص عليها وعممها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله 🙁 كل مولود يولد على الفطرة ) ، وهذا الإيمان هو الذي قد أشهد الله عليه الأنفس الإنسانية في عالم لا ندري كيف هو ويصطلح عليه بعالم الذر, ولهذا فحينما يذكَّرالإنسان غير المؤمن بالله تعالى فقد يحصل له اضطراب بسبب شعوره بنقضه للعهد الذي كان قد أخذه على نفسه وهو في حضرة ربه في ذلك العالم المشار إليه ، فيكون هذا الذكر أو التذكير موقظا قويا لذلك الانطباع الذي قد طبعت عليه نفسه منذ تلك المرحلة غير الزمنية فيقع حينئذ فريسة الصراع بين الحقيقة والوهم , ونظرا لأن الوهم يكون قد استولى عليه وذلك بواسطة استسلامه له فإنه سيغمره ويحجبه عن الحق الذي قد يطل عليه بشعاعه كلما فتحت نافذة أو فرجة صغيرة ولو على حجم الذرنفسه ،لأن النورأسرع في الظهور والسطوع من كل الحواجز طالما هناك منفذ وأمل في العودة إلى الحق ولم يكن الحجاب : {ظلمات بعضها فوق بعض } ، ومن هنا فقد لا يكاد غيرالمؤمن والمصطدم بهذا الشعاع يميّزه حتى يعود إلى مقامه الوهمي والمستحوذعليه بفعل غفلة نفسه أو تضليل الشيطان الرجيم له , ومن ثم فقد يحدث له الإضطراب والنفور والإشمئزاز كما لخص لنا ابن عطاء الله السكندري الصوفيّ المشرب هذا المعنى في الحكمة التالية: ” الحق ليس بمحجوب وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه ، فلو حجبه شيء لستره ما حجبه ولو كان له ساتر لكان له حاصر وكل حاصر لشيء فهو له قاهر” ، والله وحده القاهر{وهو القاهر فوق عباده} ، فالأوهام النفسية هي التي قد حجبت الإنسان عن الحق ومن ثم ولّدت لديه عداوة معلنة تجاهه ليس من باب زعزعة الإعتقاد القلبي والإيمان الغيبي فقط ولكن من باب أن الأوهام قد تصل به إلى مستوى لا يصدّق فيه حتى حواسّه الخمس كما يقول الله تعالى:{ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ، لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون} -14–15-سورة الحجر،{ ولقد مكنّاهم فيما إن مكناّكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون} -26 سوره الآحقاف – وهذا التفاعل بالنسبة إلى الكافر قد يبدو سلبيا , وكأنه مناقض للأثر الرئيسي الذي يحدثه الذكر في القلوب كما في آية الإطمئنان ، ولهذا فحال المؤمنين الذاكرين حال روحيّ كيفما كان نوعه أما حال المنافقين والملحدين فهو حال نفسيّ مرضيّ مختل ، وفي ما يخص حال المنافقين الوارد في قول الله تعالى : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا، مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هــــؤلاء، ومــن يضلــل اللـــه فلن تجـــد له سبيلا} -سورة المنافقين – فقد تميز باختلال سلوكي أخلاقي وحركي واضح كعنوان على الواقع العقدي لديهم المتمثل في عدم استقرار الإيمان ورسوخه في قلوبهم , وهو ما أدّى إلى غياب الانضباط والتماسك السلوكي أو الحركي كموقف والتزامات , ولهذا فمهما ادّعى المنافقون أنهم ملتزمون ومتبعون لأحكام الشريعة الإسلامية إيمانا وتصديقا فإن حالهم هو الذي يكذبهم ، وعلى رأس هذه الأحوال ظاهرة عدم الاكتراث بذكر الله تعالى مما يعني التقليل منه كما وصفهم الله تعالى , وهذا التقليل من ذكر الله له نتائج سلبية : وهي غياب الباعث إلى الحركة والاطمئنان كحال مؤدي إلى التكيف والانسجام مع أعمال العبادات الأخرى , مما أضفى على المنافقين وصف الكسل وتثبّط العزائم , والكسول هو الذي لايستنهضه باعث أو حادث على الحركة لعدم إيقانه بنتائجها وثمرتها، أو لشكه في جدواها ومصدر تشريعها وبما أن الصلاة هي وسيلة صلة العبد بربه فإن غياب الإيمان عند المنافقين أدّى بهم إلى هذه الظاهرة السلبية على مستوى الحركة والقول كدلالة على أحوالهم الباطنية التي تنبئ بغياب الإيمان عن القلوب ومباعدته لها ، واقعا عقديا وممارسة عملية ، وقد يتساءل البعض كيف أن المنافقين رغم استقرارهم في الدرك الأسفل من النار كجزاء أخروي قد يذكرون الله قليلا في بعض الأحيان مع أنهم أسوأ حالا من الكفار وأشد منهم ضلالا ؟ ، والجواب في قوله عز وجل : { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون } ، أي أنهم ناقضواالحقيقة بعدما أشرفوا على مشاهدتها ببواطنهم إشرافا جزئيا سرعان ما تحوّل حالهم عنده إلى مرض أخلاقي وصفه الله تعالى بالمخادعة أي مناقضة الظاهرللباطن ، والأعمال للنيات ، للتضليل والتزييف والمكايدة ، وما إلى ذلك من السلوكيات ذات الأثر السلبي على سلوك الفرد والمجتمع ,وهوما قد يؤدي إلى تدمير الوجود الإنساني تدميرا كليا إذا استفحل وجوده وعمّ التعامل به ، كما أن قلة الذكر عند المنافقين له دور كبير في غياب الاندماج الكلّي داخل المجتمع الإسلامي الذاكر, وبالتالي إحداث ظاهرة الانفصام الاجتماعي لدى المنافقين المؤدي إلى سلب الهوية وانفصام الشخصية كما عبرت عنه الآية في قول الله تعالى:{ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا } ، ورغم تظاهرهم بالإيمان والتقوى , فإن أحوالهم تبقى دائما ذات طابع تناقضي ملحوظ حيث تتسم في أغلب مظاهرها بالجفاف والتصنّع والتقحّل الذوقيّ والأخلاقيّ، لوجود انقطاع نورانيّ كانت وظيفته الوصل بين القول ومصدره ألا وهو القلب جوهر الإنسان وخلاصته مما يعني غياب عنصرالمدد المفيد للقول وادّعاءاته وهذا ما يفسر لنا كيف أن المنافقين لايستطيعون أن يكثروا من ذكر الله تعالى , لآن أستمرارهم على الذكر من شأنه إنارة قلوبهم وتطهير أنفسهم , ولأن قلوبهم لا تتمنى بالفعل الإيمان الحقيقيّ فهم غالبا غير مؤمنين إلاّ قولا فقط لا غير, ولا يتعاملون مع الله بصدق الإيمان ولهذا أصبح الذكر صعبا عليهم ، إنّ التعامي الذي يكرسه سلوك المنافقين مع الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم رغم استشرافهم الجزئي على ملاحظته , فقد استحقوا أشد العذاب لأن كفرهم نتيجة مرض أخلاقيّ متمثل في الإستكبار والمخادعة والجحود لماهو يقينيّ ومشهود, بعد معاينة آثاره في قلوبهم وتجاوبهم معه بالقليل من الذكر لعدم استقرار إيمانهم به , والذي لايكاد يسترسل حتى ينقطع حبله بسبب تقلّب قلب المنافق بين الكفروالإيمان وانطباعه على هذا التذبذب الذي لايفيد عقيدة راسخة ولاعبادة مستمرة ، وكاستخلاص جملي حول هذه الوظيفة التي يحققها ذكر الله تعالى أختم وبالله التوفيق فأقول : بأنّ الذكر في كل الحالات يبقى دائما معيارا للقوة الإيمانية ووسيلة استدلالية على رسوخ إيمان الذاكرين المسلمين في ملاحظتهم لأنفسهم أو بعضهم البعض، كما أنه يوضّح لهم كعلامات ظاهرية خبث وضلال المنافقين والكفار معا من خلال ملاحظة أحوالهم النفسية المرضية وأعراضها السلبية الطارئة عليهم ، إماعند مزاولتهم للذكرالموصوف بالقلة والكسل كما هو حال المنافقين، وإماعند سماعهم له واشمئزازهم أونفورهم منه ، وبهذا يتبيّن لنا من خلال هذا التفسيرالمتواضع لتلك الوظيفة التوحيدية للذكر أنه لا رسوخ للإيمان بدون ذكرولاإكثار لذكردون وجود إيمان حقيقيّ ، كما أنه لاسداد لفكر دون إيمان مباشر بذكر، ولهذا فمن زاد عليك في الذكرزاد عليك في سداد الفكر، ومن زاد عليك في سداد الفكرزادعليك في الإيمان المباشر،ومن زاد عليك في الإيمان المباشر كان أقرب منك إلى الإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أعطى الإسلام التوضيح الصحيح للنفس الإنسانية والمنهج السليم للحفاظ على استقرارها واطمئنانها ، وعلى هذا فالنفس المطمئنة تبقى هي أرقى النفوس الإنسانية وتمثل مظهرا سعادتها الحقيقية التي قد لا تتحقق إلّابشروط ، وقد رأينا من خلال هذا العرض السريع والمختصر بعض ظواهرالنفس الرئيسية وسعة الآفاق الإستدلالية والمجال الذي يمكن أن تسعى وتطمح إليه سبرا وكشفا كما أوردها القرءان الكريم والحديث النبوي الشريف .
تعليقات الموضوع: